آخر الأخبار :

تقدير موقف تراجع الأحزاب وتقدم الحراكات الاجتماعية .. الضمان الاجتماعي أنموذجًا

تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في برنامج "التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات" الذي ينفذه مركز مسارات - الدفعة الخامسة 2018-2019.
مقدمة
جاء إصدار قانون الضمان الاجتماعي في فلسطين، وما أثاره من احتجاجات جماهيرية كبيرة أدت إلى إلغائه، ليكشف مجددًا عن وجود آليات جديدة للعمل الجماهيري، تأخذ شكل الحراك الميداني، الذي تجاوز دور الفصائل والأحزاب السياسية التي غابت إلى حد كبير عن الفعل، كما تجاوز، بل تناقض موقفه ودوره مع الاتحادات العمّالية الرسمية القائمة. وهذا يطرح مجددًا مسألة التحولات الجارية في طبيعة التنظيم السياسي والجماهيري، والسبل التي يتحرك من خلالها الجمهور لتحقيق مطالبه.
قانون الضمان الاجتماعي
أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بتاريخ 2/3/2016، قرارًا بقانون رقم (19) للعام 2016 بشأن الضمان الاجتماعي، ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 20/10/2016، ودخل حيز التنفيذ بتاريخ 21/11/2016، على أن يبدأ تطبيقه إلزاميًا اعتبارًا من تاريخ 13/11/2018ـ
أثار القانون جدلًا ونقاشًا كبيرَيْن، واحتجاجاتٍ جماهيريةً، إلى أن أصدر الرئيس عباس قرارًا بقانون بتاريخ 28/1/2019، نصَّ على وقف نفاذ قانون الضمان، و"استمرار الحوار بين جميع الجهات ذات العلاقة بالخصوص، من أجل الوصول لتوافق وطني على أحكام القانون وموعد نفاذه".
جاء هذا القرار بعد مشاركة جماهير واسعة، في عدد من الاعتصامات والفعاليات التي نظّمها الحراك الرافض لقانون الضمان الاجتماعي في الضفة الغربية المحتلة، وعلى الرغم من تدخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإجراءات المشددة التي فرضتها خلال تنفيذ العديد من الفعاليات الرافضة للقانون، بيْدَ أن آلاف العمال والعاملات من مختلف القطاعات وصلوا وشاركوا في المظاهرات واللقاءات التي نفذها الحراك.
أثارت هذه الأحداث المتتالية والمتسارعة، التي أعقبت صدور قانون الضمان، تساؤلات عديدة، أهمها: ما الأسباب والظروف التي أدت إلى تراجع دور الأحزاب السياسية بشكل ملحوظ في الحراك المضاد لقانون الضمان الاجتماعي؟ وما الأسباب التي أدت إلى التفاف الجماهير بهذه المشاركات الواسعة حول الحراك الرافض للقانون، في ظل عجز الأحزاب السياسية في كثير من مظاهراتها وفعالياتها عن حشد وتحريك هذا الكم من المواطنين؟
منذُ انطلاق الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي على أرض الميدان، غابت الأحزاب (والفصائل) السياسية عن الحضور الحقيقي في هذا الحراك، ما يعكس تراجع دور الأحزاب في تبني قضايا المواطنين، وتقدم الحراكات الاجتماعية بشكل ملحوظ، لتسد ذاك العجز الذي وقعت فيه الأحزاب بفعل العديد من الأسباب في ظل الاحتلال الإسرائيلي وحالة الانقسام السياسي الفلسطيني التي ألقت بظلالها على جميع مكونات الحياة السياسية.
دور الأحزاب خلال حراك الضمان الاجتماعي
لا تزال الساحة الداخلية الفلسطينية تعجّ بالكثير من الخلافات والمشاكل التي أثرت بشكل سلبي على حياة المواطن، فيما تبدو أجندات الفصائل والأحزاب بعيدة عن همومهم، وأسيرة الانقسام السياسي، وتتسم بالتجاذبات وتبادل الاتهامات بين الفصائل ومسؤوليها.
تباينت مواقف الأحزاب خلال حراك الضمان على الرغم من وضوح مطالبه، وفي ضوء ذلك أصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بيانًا، بتاريخ 8/11/2018، دعت فيه إلى ضرورة الاستمرار في تطبيق القانون، وضمان استمرار الحوار مع كافة الأطراف المعنية، خاصة أصحاب العمل والحكومة، بما يضمن إدخال التعديلات المطلوبة، ورافضةً كافة المطالبات الداعية إلى إلغاء القانون وجعله اختياريًا كون ذلك يتعارض مع المصالح الحقيقية للعاملين في القطاع الخاص والهيئات الأهلية.
أما حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، فدعا مجلسها الثوري، في جلسته التي عقدت بتاريخ 16/10/2018، إلى تأجيل تطبيق القانون لمدة ستة أشهر، ليكون الانضمام خلالها اختياريًا إلى حين إجراء التعديلات اللازمة، بما يحقق مصلحة العمال والموظفين.
وكذلك دعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الحكومة الفلسطينية، في بيان لها بتاريخ 16/10/2018، إلى وقف تطبيق القانون، والاستجابة لمطالب الجماهير، والالتزام بالآليات القانونية السليمة لإقرار القوانين، وقد أدانت إصرار الحكومة على المضي في تطبيق القانون وتجاهل حالة الرفض الكبيرة له.
أما حزب الشعب الفلسطيني، فعبرّ عن موقفه بسام الصالحي، الأمين العام للحزب، خلال حوار مع تلفزيون "وطن"، إذ دعا جميع الأطراف الحراك إلى بلورة مطالبهم المتعلقة بالملاحظات على قانون الضمان، والجلوس للحوار حولها مع كافة الأطراف ذات العلاقة، مشيرًا إلى أنه ليس من العدل المطالبة بإلغاء القانون.
لقد غاب الدور الفاعل للأحزاب السياسية خلال الحراك، واقتصر على إصدار بيانات إعلامية متباينة في المواقف والآراء، دون المشاركة الفعالة على أرض الواقع، مما أكد بشكل جلي مدى تراجع دور الأحزاب. ويمكن إجمال أسباب هذا التراجع إلى:
أولًا: الدور الذي لعبه الاحتلال من خلال إضعاف الأحزاب وحرف بوصلتها، من خلال إشغالها بقضايا هامشية، كالانخراط في لجان توزيع المساعدات الغذائية، وإبعادها عن الوصول إلى إستراتيجية وطنية تسعى إلى تحقيق أهداف موحدة باختلاف الأدوات المستخدمة.
ثانيًا: يرتبط تراجع دور الحركة الوطنية في الحالة الفلسطينية بمشاريع التسوية التي توجت باتفاق أوسلو، الذي نقل الحركة الوطنية من مربع النضال التحرري إلى مربع السلطة وربطها بالعديد من المصالح، وبالتالي انقسمت الساحة الفلسطينية إلى مؤيد ومعارض، وتبدلت أولويات الحركة الوطنية بفعل هذه الاتفاقيات، ما تسبب في تراجع دور الأحزاب تجاه القضايا الوطنية والديمقراطية الاجتماعية، التي تتطلب نضالًا نقابيًا لتحسين ظروف الناس، وتعزيز صمودهم في مواجهة التحديات المحدقة بالمشروع الوطني.
ثالثًا: الانقسام الفلسطيني وما خلّفه من تداعيات أضعفت صمود المجتمع وانكشافه أمام مخططات المستعمر، وما أدى إليه ذلك من تراجع ملموس في دعم الأحزاب لقضايا وهموم المواطنين في ظل انشغالهم بالمناكفات السياسية والبحث عن المصالح الحزبية الخالصة، والخشية من أن أي موقف تجاه قضية معينة قد يفسر على أنه انحياز لأحد طرفي الانقسام.
رابعًا: سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانتشار ظواهر التسول وشح فرص التوظيف، إضافة إلى التشوهات الهيكلية في سوق العمل وتسليع نظام التعليم؛ كل ذلك أدى إلى إضعاف الأحزاب وارتفاع نسبة العزوف عن المشاركة السياسية للمواطنين بشكل عام، والشباب بشكل خاص، نتيجة
حالة الإحباط التي وصلوا إليها بعد عجز الأحزاب عن وضع حل لمجمل هذه المشكلات التي تواجههم منذُ زمن.
تقدم الحراك بوصفه حراكًا اجتماعيًا
يقول هانك جونستون في كتابه "الدول والحركات الاجتماعية" إن الناس يلجأون إلى الاحتجاجات والتظاهرات وجمع التوقيعات والتنظيمات، التي تعبّر عن مطالبهم في التغيّر الاجتماعي، وتعد كل تلك الأساليب مهمة لتأكيد المصالح والدفاع عنها في السياسة المعاصرة.
لقد شغلت ظاهرة الحراكات الاجتماعية غير الحزبية، الأكاديميين والباحثين، نظرًا لطبيعة الدور الذي باتت تلعبه. والحراكات الاجتماعية في العالم العربي ظاهرة عرفها القاموس العربي منذ مرحلة قصيرة نسبيًا. وتتسم معظم الحراكات الاجتماعية، عالميًا وعربيًا وفلسطينيًا، بأنها تندلع ثم تخبو، وقوامها الجماهير المهمشة الساعية لتحقيق مطالبها، أو المعارضة لسياسات معينة.
يُنْظَرُ إلى هذه الحراكات على أنها البديل الديمقراطي في العالم العربي، الذي ظهر نتيجة عجز الأحزاب عن أداء دورها في ظل أنظمة قمعية عمدت إلى وضع كافة القيود أمام ممارسة العمل السياسي، إلا أنّها تمكّنت من إحداث الفارق والتغيير منذ نشأتها، فقد تشكّلت هذه الحركات انسجامًا مع الواقع العربي ومعبرةً عنه، فالحركات مرآة تعكس التغيير المأمول لدى المجتمعات.
وهذا الأمر ميّز حراك الضمان الاجتماعي بوصفه حراكًا اجتماعيًا معبرًا عن قضايا المواطنين وهمومهم، ومدافعًا عن حقوقهم.
مع نشر القانون، بدأ حراك مجتمعي واسع نسبيًا، وتشكّلت "الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي" من ائتلاف واسع من النقابات العمالية والمهنية، والشبكات والمنظمات غير الحكومية، مثل اتحاد نقابات موظفي وأساتذة الجامعات الفلسطينية، والنقابات العمالية وغيرهم.
ما ميز الحملة أنها استندت إلى خبرة بحثية واسعة حول الضمان الاجتماعي قدمها مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية "المرصد"، ومراكز حقوقية وبحثية أخرى ساعدت في تكوين رأي عام تجاه القانون، ومنها جهود المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية (مواطن)، ومعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). ومن خلال أدوات متنوعة وقدرة عالية على الوصول إلى وسائل الإعلام المختلفة التقليدية والاجتماعية، وبالتالي أصبح بمقدور الحملة حشد الآلاف في تظاهرات احتجاجية، الأمر الذي دفع الحكومة لاحقًا إلى فتح حوار معها[8]، ثم تبع ذلك إصدار قرار بقانون يوقف العمل بالقانون إلى حين الوصول إلى توافق وطني عليه.
أظهر حراك الضمان القدرة العالية على حشد الجماهير وتنظيمها وصولًا إلى تحقيق أهدافها، إذ أثبتت حجم المشاركة الكبيرة قدرة الحراك التي تفوقت على قدرة التنظيمات السياسية في الساحة الفلسطينية، وأصبحت هناك مطالبات بالسير على نفس النهج المتبع في مواجهة قانون الضمان من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية.
يمكن إجمال الأسباب التي أدت إلى ظهور الحراك وتقدمه في دعم قضايا المواطنين ما يأتي:
أولًا: إن ظاهرة الحراكات الاجتماعية هي ظاهرة مجتمعية مارست أدوارًا نقابيةً مطلبيةً على المستوى العالمي، وحققت نجاحات ملموسة على هذا الصعيد، وعلى المستويَيْن الإقليمي والعربي. كما بدأت حراكات اجتماعية بالظهور تحمل مطالب ذات طابع مطلبي، تهدف إلى تحسين شروط حياة الناس وصون كرامتهم، وعندما انطلقت ثورات الربيع العربي رُفعت شعارات مطلبية لها علاقة بالكرامة الإنسانية والعيش الكريم، وتأثرت الساحة الفلسطينية بتلك الحركات من خلال الطفرة التكنولوجية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، مما ساهم في بلورة هذا المسار على المستوى الوطني.
ثانيًا: تمس قضايا الضمان الاجتماعي سلة التأمينات الاجتماعية التي لها علاقة بحماية حقوق العمال والخريجين وتأمينات الشيخوخة والبطالة ... إلخ، وهذه القضايا تمس حياة فئات متنوعة وقطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني.
ثالثًا: أدت توجهات الليبرالية الجديدة التي تعتبر العدو الأول لقانون ضمان اجتماعي عادل، والتي تحكم عمل السلطة وخططها التنموية، إلى زيادة الفقر، وتوسيع هوامش الفروقات الاجتماعية، إذ أصبحت قلة تستحوذ على أكثر من 80% من موارد الشعب الفلسطيني. و أوجد هذا التوزيع غير العادل للثروة والموارد إلى شعور بغياب العدالة لدى الطبقات الفقيرة في فلسطين، الذي عبر عنه من خلال حراك الضمان الاجتماعي.
رابعًا: سيطرة رأس المال الفلسطيني على حقوق العاملين، مستثمرًا تحالفه مع أصحاب النفوذ السياسي، ومحاولته تقليص هامش التقديمات الاجتماعية، والانقضاض على مكتسبات الحركة النقابية العمالية من أجل تصفيتها وإلحاقها بعجلة السوق.
خامسًا: عجز الأحزاب عن أداء دورها، وضعفها في التأثير وفقدان قدرتها على تحريك المواطنين نتيجة فقدان ثقة المواطن بالأحزاب التي فشلت حتى الآن في إنهاء الانقسام، إضافة إلى فشلها في الوقوف إلى جانب المواطن الفلسطيني في كثير من المراحل الحاسمة.
خاتمة
توضّح الحالة التي وصلت إليها الأحزاب السياسية الفلسطينية في ظل الاحتلال والانقسام، والتي ظهرت من خلال ضعف تحركها في حراك الضمان الاجتماعي؛ حاجة الأحزاب إلى مراجعة سياساتها وأهدافها وطرق تحركها، وإعادة صياغة خطابها لتقنع المواطنين وتحصل على اهتمامهم وتأييدهم، من أجل الوصول إلى حالة من الالتفاف الشعبي والجماهيري حول هذه الأحزاب، التي تعتبر ظاهرة صحية إذا ما سارت بخطى نحو إستراتيجية موحدة وواضحة، وبعيدة على التجاذبات السياسية والتعصبات الفئوية والمصلحة الخاصة.




نشر الخبر :
رابط مختصر للمقالة تجده هنا
http://pn-news.net/news11072.html
نشر الخبر : Administrator
عدد المشاهدات
عدد التعليقات : التعليقات
أرسل لأحد ما طباعة الصفحة
التعليقات
الرجاء من السادة القراء ومتصفحي الموقع الالتزام بفضيلة الحوار وآداب وقواعد النقاش عند كتابة ردودهم وتعليقاتهم. وتجنب استعمال الكلمات النابية وتلك الخادشة للحياء أو المحطة للكرامة الإنسانية، فكيفما كان الخلاف في الرأي يجب أن يسود الاحترام بين الجميع.