آخر الأخبار :

"حماس" ... سياسة تجزئة الهدنة

مقدمة

تخوض حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مفاوضات مع إسرائيل بوساطات عربية ودولية، كان آخرها مفاوضات في مطلع شباط 2019، بين إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، ووفد أمني مصري، ونيكولاي ملادينوف، مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، تضمنت فتح جمهورية مصر العربية لمعبر رفح، مقابل ضبط حركة حماس للمظاهرات على الحدود، وعدم السماح بحدوث أعمال عنف.[1]

يمكن رؤية مثل هذه المفاوضات كجزء من مسيرة تحول في خطاب "حماس" السياسي. فبعد أن رفضت فكرة المفاوضات، والتسوية السياسية مع الاحتلال، واعتبرت "اتفاق أوسلو" تنازلًا عن الأرض الفلسطينية، خاضت جولات عدة من المفاوضات غير المباشرة مع الاحتلال من أجل الوصول إلى هدنة في جزء من فلسطين التاريخية الذي تسيطر عليه، وهو قطاع غزة.

يبدو أنّ خطاب "حماس" الحالي يتجه نحو معالجة أزمات قطاع غزة الذي تحكمه منذ 11 عامًا، وفق منظورها القائم على فكرة "الهدنة"، بدءًا بـ "تهدئة" ميدانية للقطاع، تؤدي ضمنًا أو صراحةً إلى "هدنة" طويلة الأمد مع الاحتلال.

"حماس" من الرفض إلى القبول بـ "الهدنة"

نشأت حركة حماس على فكر يرى أن التسوية لا تُلبي طموحات الشعب الفلسطيني ورغباته، واستندت في ذلك، إلى نظرتها كحركة إسلامية، إلى أرض فلسطين أنها "أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين لا يصحّ التفريط بها أو بجزء منها، أو التنازل عنها أو عن جزء منها".[2] وعلى سبيل المثال، أكدت "حماس" في تصريح صحفي، بتاريخ 25/6/1994، تعقيبًا على تطورات عملية التسوية مع الاحتلال، رفضها الحاسم لما يسمى "عملية التسوية" التي انطلقت في مؤتمر مدريد".[3] وأعلنت حينها رفضها المطلق لاتفاقية الحكم الذاتي، وكل ما يترتب عليها من مشاركة في السلطة أو في الانتخابات المخصصة لاختيار مجلس الحكم الذاتي.[4]

في المقابل، صدرت دعوات مبكرة عن قيادات من "حماس" تدعو إلى الهدنة مع دولة الاحتلال، كان أولها تصريح محمود الزهار في العام 1988، وتصريح محمد نزال في كانون الثاني 1993، كما صدرت مبادرة رسمية عن المكتب السياسي للحركة في نيسان 1994. رأت "حماس" في ذلك الوقت أن الحل الأفضل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يكمن في التوصل إلى هدنة، تُحدد بسقف زمني على أراضي العام 1967، بعد أن تنسحب إسرائيل منها، وتفكك المستوطنات، وتطلق سراح الأسرى، مقابل وقف "حماس" للعمل المسلح ضد إسرائيل.[5]

في مقابلة صحافية مع صحيفة "السبيل" الناطقة باسم الإخوان المسلمين، في الأردن، في نيسان 1994، قال موسى أبو مرزوق، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" آنذاك، "إنه يمكن أن تكون هناك معاهدة سلام أو هدنة (...) فإذا أرادوا أن تتوقف المقاومة في هذه اللحظة فالمطلوب: انسحاب القوات الصهيونية من الضفة والقطاع والقدس؛ تفكيك المستوطنات؛ التعويض عن الخسائر والضحايا الناجمة عن الاحتلال؛ إجراء انتخابات حرة ليقرر الشعب الفلسطيني قيادته المنتخبة، هذه القيادة هي التي ستعبر عن طموحات الشعب الفلسطيني ومستقبل الصراع".[6]

وأضاف أبو مرزوق "إذا ما انتخبت الحركة فلها موقف واضح من الصراع، أمّا إذا كانت أقلية، فإنها ستعبر عن وجهة نظرها بكامل حريتها، وسنحترم رأي الأغلبية المنتخبة".

في ذات السياق، كان يبدي مؤسس "حماس" الشيخ أحمد ياسين مرونة سياسية؛ وقد طرح أكثر من مرة هدنة طويلة مدتها 10 سنوات شرط انسحاب دولة الاحتلال من قطاع غزة والضفة المحتلة والقدس.[7] وأشار ياسين في العام 2003 إلى أن حركته على استعداد لدراسة كل العروض ثم تقرر بعد ذلك.[8]

يمكن النظر إلى هذه المواقف في خطاب "حماس" السياسي كمشروع سياسي اعتراضي على مشروع التسوية السياسية الذي تتبناه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ويقوم على قرارات الشرعية الدولية والاعتراف بإسرائيل والتنازل عن حوالي 78% من أرض فلسطين التاريخية.

يبدو أن "حماس" سعت من وراء الهدنة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، أهمها إبقاء التمايز في المواقف السياسية بينها وبين منظمة التحرير، لأن فكرة الهدنة تقوم على تجميد الصراع لفترة زمنية لا تسويته بشكل نهائي، وتستطيع "حماس" تبريرها وطنيًا وشرعيًا كونها لا تتضمن اعترافًا بإسرائيل أو تنازلًا عن جزء من أرض فلسطين التاريخية.

لكن، من جهة أخرى، يمكن أن تتطور باتجاه تبني فكرة التسوية السياسية على حدود 1967، وفقًا لمؤشرات تطور الفكر السياسي للحركة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية ودخولها السلطة في العام 2006.

خطاب "حماس" السياسي بعد وصولها لحكم غزة

بعد نجاح "حماس" في الانتخابات التشريعية، أصبحت الممارسة السياسية لها أكثر وضوحًا تجاه عملية التسوية، إذ الزهار أن "حماس لا تمانع التفاوض مع إسرائيل".[9] وبعد تشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة برئاسة إسماعيل هنية، صرح غازي حمد، الناطق الرسمي باسم الحكومة آنذاك "أنّ موقف حماس ليس ضد مبدأ المفاوضات، لكنها حذرة من التفاوض...، وإذا تأكدت الحركة أنه سيترتب على المفاوضات تحقيق مصالح وطنية، فلن تكون "حماس" ضد ذلك".[10]

فرضت إسرائيل حصارًا شاملًا على قطاع غزة بعد تشكيل الحكومة العاشرة. وكتب غاريث إيفانس وروبرت مالي في صحيفة "فايننشال تايمز" في العام 2006، أن السبب الأساسي للحصار هو منع "حماس" من ممارسة الحكم، ومعاقبة الشعب الفلسطيني لاختيارها.[11] وتبع الحصار مقاطعة دولية، ومن ثم شنت إسرائيل حروبًا عدوانية على القطاع في الأعوام 2008 و2012 و2014، الأمر الذي زاد من سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

رافق ذلك تحول في مفهوم "الهدنة" في خطاب "حماس" السياسي، يقوم على تجزئة "الهدنة"، من خلال تجاوبها مع فكرة التوصل إلى هدنة مع دولة الاحتلال في قطاع غزة، وليس الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.

خطاب حماس السياسي بين "التسوية" و"الهدنة"

فضلًا عن مفاوضات تبادل الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، التي انتهت بتبادل أسرى في العام 2011، خاضت "حماس" بعد الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، بالمشاركة مع الفصائل الفلسطينية مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار. وعقدت أول "هدنة" في العام 2008، وكانت مطالب "حماس" حينها وقف العدوان وفتح المعابر.

في عدوان العام 2012، رفضت إسرائيل مقترحات التهدئة التي صاغها مسؤولون في الاستخبارات المصرية ووافقت عليها "حماس"، والتي تضمنت: فتح المعابر الحدودية، تخفيف الحصار، إلغاء المنطقة الأمنية على الحدود الشرقية للقطاع.[12] وتم التوصل إلى تهدئة ميدانية حيث توقفت إسرائيل عن التصعيد وأبلغت المصريين أنها لا تريد التصعيد إذا توقف إطلاق الصواريخ من غزة، وهو ما حدث بالفعل.[13]

عادت "حماس" بعد عدوان العام 2014 إلى القاهرة كجزء من وفد فلسطيني بقيادة منظمة التحرير للتفاوض مع إسرائيل بوساطة مصرية، في محاولة للتوصل إلى اتفاق هدنة في قطاع غزة[14]، حيث جرى التفاوض على فتح المعابر بين إسرائيل وغزة، وإدخال المساعدات ومواد إعادة الإعمار، في حين تم الاتفاق على التفاوض حول القضايا الخلافية الأخرى (الميناء، المطار، الأسرى) خلال شهر من بدء وقف اطلاق النار.[15]

يمكن القول إنه بعد 5 سنوات على هذا الاتفاق، لم يتم إنهاء قضية الميناء والمطار والأسرى، واكتفت "حماس" بفتح جزئي للمعابر والمساعدات وإعادة الإعمار.

بعد استمرار "حماس" في الحكم، والاعتداءات التي شنها الاحتلال على القطاع، ظهرت مؤشرات لتحول آخر في خطاب "حماس" السياسي وهو، قبول فكرة التفاوض المباشر بدلًا من الوساطة، حيث صرح موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي للحركة آنذاك، خلال مقابلة تلفزيونية على قناة "دريم" المصرية بتاريخ 10/9/2014، "بإمكانية التفاوض المباشر مع الكيان الصهيوني، وأنّه من الناحية الشرعيّة لا غبار على مفاوضة الاحتلال، وأنّ الظروف التي تمر بها الحركة قد تدفعها إلى ذلك"، مبررًا أنّ التفاوض مع الاحتلال "أصبح مطلبًا شعبيًا الآن".[16]

كما ورد في البند (20) من "وثيقة المبادئ والسياسات" العامة التي طرحتها "حماس" في أيار 2017 "حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة". ومع ذلك، شددت في نفس البند على تحرير فلسطين تحريرًا كاملًا من نهرها إلى بحرها وعلى عدم الاعتراف بإسرائيل.[17]

في ذات السياق، عقب خالد مشغل، رئيس المكتب السياسي السابق لحماس خالد، على الوثيقة خلال مقابلة له على قناة "بي بي سي"، بالقول: "دون الإخلال أو التفريط في الثوابت الفلسطينية، فإن "حماس" ترى بأن إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67، تمثل برنامجًا مشتركًا مع شركائنا في الساحة الفلسطينية، فالوثيقة تعكس تطور فكر "حماس" السياسي في الثلاثين سنة الماضية".[18]

على الرغم من هذا التحول في موقف "حماس" من عملية التسوية، إلا أنّ العالم الغربي لم يتعاط بإيجابية مع تلك التحولات. وقد صوتت 87 دولة لصالح قرار يدين "حماس" والمقاومة الفلسطينية في الأمم المتحدة في كانون الأول 2018، مقابل 57 صوتت ضده، غالبيتها من الدول اعربية، في حين امتنعت 33 دولة عن التصويت.[19]

سياسة "حماس" وتجزئة الهدنة

يبدو أن الخطاب السياسي لـحركة حماس، فيما يتعلق بالهدنة، قد تغيّر بعد سيطرتها على السلطة في قطاع غزة العام 2007، نتيجة لظروف الانقسام، والحصار والحروب العدوانية الإسرائيلية، والمقاطعة الدولية. ففي ظل هذا الواقع باتت الحركة عمليًا تنظر إلى "الهدنة" كوسيلة لمعالجة الأزمات المتفاقمة في القطاع ومنع انفجاره، والاحتفاظ بحكمها له، مقابل وقف أشكال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي من حدود القطاع.

تسير "حماس" بخطوات ميدانية لتجزئة "الهدنة" جغرافيًا وزمانيًا، وتقتصرها على قطاع غزة، مع استعداها لخوض مفاوضات أكبر لعقد "هدنة" طويلة الأجل مع الاحتلال.

تعزز هذا التوجه لدى "حماس" بعد فشل الجهود المصرية لإيجاد صيغة لتطبيق اتفاق المصالحة الذي وقعته حركتي فتح وحماس في القاهرة في تشرين الأول 2017، وفي ظل فرض حكومة الوفاق الوطني إجراءات عقابية على الحركة، وبعد انطلاق مسيرات العودة بزخم في قطاع غزة في نهاية آذار 2018، التي وجدت الحركة فيها وسيلة للضغط من أجل كسر الحصار ومعالجة أزمات قطاع غزة، عبر التوصل إلى هدنة مع الاحتلال الإسرائيلي.

يتضح توجه "حماس" لتجزئة "الهدنة" في المفاوضات الأخيرة للحركة مع الوفد المصري وملادينوف في شباط 2019، التي تمحورت حول فتح مصر معبر رفح، مقابل ضبط حركة "حماس" للمظاهرات على الحدود.

من جانب آخر، يتبنى وزراء في المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "كابنيت"، وضباط كبار في الجيش، ومراكز بحثية إسرائيلية، فكرة التوصل إلى صيغة "هدنة" مع "حماس". فقد كتب كوبي ميخائيل، الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، "هناك كيانان فلسطينيان منفردان، ومعاديان لبعضهما، وبالاستناد إلى الافتراض بأن "حماس" ستبقى العنصر المهيمن في غزة، يجب فحص إمكانية قبول وجود "كيان معادٍ آخر على حدود إسرائيل"، وبلورة إستراتيجية لتسوية العلاقات معها، بوساطة تفاهمات أمنية".[20] ولكن هذه الأفكار لم تتحول إلى سياسة رسمية للحكومة الإسرائيلية.

خاتمة

حمل خطاب "حماس" السياسي تجاه التسوية السياسية تحولات عديدة، من رفض فكرة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وتبني مفهوم الهدنة وبتبريرها وطنيًا وشرعيًا، إلى القبول بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 مع ربطها بعودة اللاجئين، دون الاعتراف بإسرائيل، وكذلك من الرفض المطلق للتفاوض مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، إلى قبول عملي لفكرة المفاوضات غير المباشرة، ونظري للمفاوضات المباشرة.

كما تحولت سياسات "حماس" باتجاه تجزئة الهدنة، من هدنة على أراضي 1967، إلى قبول هدنة طويلة الأمد في غزة، تحقق رفع الحصار مقابل منعها تنفيذ هجمات مسلحة ضد إسرائيل، إلى التفاوض مع الاحتلال عبر وساطات لتثبيت "هدنة" ميدانية (هدوء مقابل هدوء)، مقابل إجراءات لتخفيف الحصار وإدخال المساعدات والأموال القطرية.




نشر الخبر :
رابط مختصر للمقالة تجده هنا
http://pn-news.net/news10631.html
نشر الخبر : Administrator
عدد المشاهدات
عدد التعليقات : التعليقات
أرسل لأحد ما طباعة الصفحة
التعليقات
الرجاء من السادة القراء ومتصفحي الموقع الالتزام بفضيلة الحوار وآداب وقواعد النقاش عند كتابة ردودهم وتعليقاتهم. وتجنب استعمال الكلمات النابية وتلك الخادشة للحياء أو المحطة للكرامة الإنسانية، فكيفما كان الخلاف في الرأي يجب أن يسود الاحترام بين الجميع.